English (الإنجليزية) Español (الأسبانية) العربية
عندما أكشف عن حقيقة مهنتي كعالمة فضاء خلال عشاء او مناسبة اجتماعية، غالبا ما يسفر ذلك عن إحداث بلبلة طفيفة!
جلستُ في الليلة الماضية بجوار مؤرّخ أثناء عشاء الكلية، وإذا به يبادلني الحديث ويسأل: ” كيف يتأتى لنا الكشف عن أسرار النجوم وخباياها الآسرة؟ “، بينما كان يلتقط سلطة الخضار من على طبقه.
أجبت: ” إنّ ضوء النجوم الذي نقوم برصده باستخدام التلسكوبات يعمل على تشفير ثروة هائلة من المعلومات كدرجة حرارة النجم مثلا، وجاذبيته، وتركيبه الكيميائة. تقوم التلسكوبات بمهمة تجميع حزم ضوئية تسمى “فوتونات”، كما يقوم الدلو بتجميع زخات المطر.
في عام 1610، استخدم جاليليو أنبوباً بسيطاً يحوي على عدسات أُطلق عليه اسم “المنظار”، من أجل مراقبة السماء وتجميع مقدار أكبر من الضوء، كمية تفوق قدرة العين البشرية على جمعها.
لقد تطورت صناعة التلسكوبات بالطبع منذ ذلك الحين. أصبحت فائقة الضخامة في الوقت الحالي، إذ تصل تكلفتها إلى مئات الملايين، حتى أنها قد تقدّر بمليارات من الدولارات. وكلّما زادت ضخامة التلسكوب، زاد مقدار الضوء الذي يقوم بتجميعه. وهكذا، أصبح اكتشاف الأجرام السماوية الخافتة البعيدة مثل الكواكب، والنجوم، والمجرات أمراً يمكن تحقيقه بسهولة.
يتألف ضوء النجوم من جسيمات تسمى فوتونات تحوي طيفاً واسعاً من الألوان والأطوال الموجية المتعددة، وبمقدور الأداة المرفقة بالتلسكوب تصنيف الضوء الصادر من النجوم وفقاً لطولها الموجي الموجود في الطيف، مما يمكننا من دراسة الضوء النجمي وفك شفرة المعلومات المرمزة داخله باستخدام مقياس طيفي يسمى “التحليل الطيفي”.
تاريخياً في القرن التاسع عشر، كان أبرز العلماء في هذا المجال هنّ من النساء. بسبب نظرة المجتمع ناحيتهن والأعراف الاجتماعية آنذاك انه من غير اللائق للمرأة أن تعمل على التلسكوب في الليل، تمّ إعطائهنّ مناصب داخلية مثل المختبرات. ففي مرصد هارفارد، أمضت آني كانون Annie J. Cannon بجانب غيرها من عالمات الفلك جلّ حياتها في تحليل مئات الآلاف من الأطياف النجمية بدقة متناهية، كما قامت بفهرسة وتصنيف أكثر من200,000 نجمة يدوياً ضمّنتها في فهرس مختص برسم خرائط التصنيف النجمي.
كيف يتم إنتاج الطيف النجمي؟
يُكسى النجم بغلاف جوي غني بالعناصر التي كانت موجودة عند ولادة النجم، أو تشكلت في جوفه لاحقاً، ثم ظهرت بعدها على السطح، وحالما يخترق ضوء النجم غلافه الجوي تنخفض كثافة بعض مكوناته، وتتشكل نطاقات داكنة في الطيف.
قلت في إشارة إلى طبق صديقي المؤرّخ:” لقد اخترت التقاط الطماطم فقط من السلطة “، أجاب: ” نعم هذا صحيح، فأنا لا أحب تناول الخضر الورقية. لذا آكل الطماطم فقط”.
بيّنت: “حسناً، إذا افترضت أني قمت بإسناد ظهري إلى ظهر شخص آخر يجلس بجواري أثناء تناول الطعام في المرة القادمة، ثم أملت رأسي إلى الخلف ملقيتاً نظرة خاطفة على طبقه، ورأيت اختفاء الطماطم وبقاء الخضر الورقية على حالها دون أن يلمسها أحد، سأفترض حينها أنه من المرجح أن تكون أنت من يجلس بجانبي من الخلف، هل توافقني في ذلك؟ أومأ المؤرّخ برأسه مخمّناً الإجابة بينما كان يمضغ القطعة الأخيرة من الطماطم.
بالمثل، يعتبر الغاز الموجود في الغلاف الجوي للنجم بارداً نسبياً، مما يدفعه إلى “الشعور بالجوع” لامتصاص الضوء، إلى درجة استعداده لاختطاف فوتون والتهامه حالما يصادفه في طريقه، إذ يمتاز بذائقة خاصة جداً. فعلى سبيل المثال، ينتقي الهيدروجين أو الصوديوم الموجودان في الغلاف الجوي فوتونات معينة من الطيف، حيث يمتلك الهيدروجين ذائقة خاصة للفوتونات المتوفرة في الجزء الأحمر من الطيف، في حين يميل الصوديوم لالتقاط الفوتونات الموجودة في الجزء الأصفر منها.
نظراً لأننا نستطيع تمييز أذواق العناصر باستخدام التجارب في المختبر، تماماً كما يمكنني معرفة ميلك لتناول الطماطم فقط، بمقدورنا تحديد مكونات الغلاف الجوي النجمي ببساطة من خلال ملاحظتنا لاختفاء الفوتونات في الطيف، أو ظهور نطاقات داكنة فيها.
الأدلة الجنائية الكيميائية
تعدّ هذه الذائقة فريدة لكل عنصر مثل البصمة الوراثية، إذ لا يمكن دمجها بأي حالٍ من الأحوال. يحتوي كل عنصر على عدد من الذرات المكونة من نوى تدور حول الإلكترونات، والإلكترون مثله مثل قاطع الطريق، حالما يصادف فوتوناً متحركاً يمتلك الطاقة المحددة التي يحتاجها لترقية نفسه إلى مستوى طاقة أعلى، يسارع إلى سرقة الفوتون، ويصبح حينها في حالة إثارة، ويصاحب ذلك فقدان الفوتون الملازم لتلك الطاقة المعينة، مما يؤدي إلى انخفاض كثافة الضوء، أو ظهور نطاق داكن في الطيف، وكلما كان النطاق داكناً بصورة أكبر عند طول موجي معين، كلما زاد تركيز العنصر المتهم بسرقة الفوتون، وبالتالي، فإنّ الدليل الجنائي لا يحدد العنصر فقط، بل يحدد كميته أيضاً.
الجاني المفقود
قد يرافق هذه العملية الكيميائية ظهور بعض المشاكل، فقد نشهد أحداثاً غريبة لا نتوقعها عندما نقوم بمراقبة نجم معين. على سبيل المثال، حين نرصد نجماً محدداً ليس ناضجاً بما فيه الكفاية لصنع أيّ باريوم، نفاجأ بفقدان كميات كبيرة من الفوتونات التي يحب الباريوم امتصاصها من طيفه، ما يثير تساؤلنا عن منبع الباريوم، من أين أتى؟!! وبالتالي، يدعونا ذلك للاشتباه بوجود حالة “عدوى”، حيث يكون النجم قد اكتسبها من نجمٍ مجاورٍ قام بإنتاج الباريوم. بعبارة أخرى، يشير ذلك إلى وجود رفيقٍ خفي يشارك مادته مع النجم محل الدراسة.
وقد نعثر في أحيانٍ أخرى على كميات غامضة من النيتروجين، مما يدفعنا إلى إعادة النظر في النظرية التي تستند إليها نماذجنا، والعمل على تنقيحها للحصول على دقة أعلى. على سبيل المثال، قد يصبح الإطار النظري المتعلق بحقيقة دوران النجوم معقداً وضبابياً بطريقة لم نعهدها سابقاً، وبالتالي، يعدّ أسلوب المقارنة بين الدراسة التنبؤية النموذجية والنتائج المتحصلة من الدراسات التطبيقية المستندة إلى الملاحظات أداةً قوية لتعزيز إطارنا المفاهيمي المتعلق بكيفية تطور الأنظمة النجمية.
ومع ذلك، تظل هناك مسائل عصية على الفهم في هذا المجال تنشأ من رصدنا وجود ثراءٍ للعناصر الكيميائية في بعض النجوم أو نضوبٍ في بعضها الآخر بطريقة يصعب علينا إيجاد تفسير علمي لها، مما يجعلنا نطلق عليها اسم ” النجوم الغريبة “.
أخبرت صديقي:” أرى أنك تظهر اهتماماً بالغاً بالبحث في تاريخ الإنسانية. بينما أنا أجد نفسي مغمورةً بدراسة تاريخ الأنظمة النجمية السحيق، من خلال فحص التركيب الكيميائي لمجموعات مختلفة من النجوم في مجرة درب التبانة، مما يقودنا إلى صياغة الملحمة التاريخية لتكون النجوم عبر المجرة “.
توقفت في استراحة محاربة عن سرد القصة بمجرد تقديم طبق الجبن والفاكهة مع قطع الحلوى على المائدة. لكنني على يقين أنه لن يتم إخماد رواية السيناريوهات الساحرة عن دورة حياة الأنظمة النجمية بأضوائها المتلألأة خلال موائد عشاء كلية كامبريدج، بل سيتم تناقلها عبر الأجيال. فهذه المعرفة نسعى إلى البناء عليها وتطويرها مع كل انبثاق لأشعة الشمس الذهبية على مدار الأيام، وكل تلألأ للإشعاعات النجمية على مدار الليالي.
تساءل صديقي المؤرّخ بفضول:” لكن مهلاً، لماذا تنحصر مهمة صنع عناصر معينة كالباريوم على عاتق النجوم الناضجة، كما أسميتها؟”، أجبته:” هذه يا صاحبي قصة أخرى لعشاءٍ آخرٍ طويل”.
ترجمة: بيان القاضي
باحثة أكاديمية معتمدة من أكاديمية publons الدولية، ومركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام. متخصصة في علوم الإعلام والذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية. برنامج تدريبي من جامعة هارفارد وMIT الذكاء الاصطناعي والإنسانيات الرقمية. MSc في الإعلام الرقمي. عضو مبادرة She Speaks Science.
Jamy-Lee Bam, Data Scientist, Cape Town
Paarmita Pandey, Physics Masters student, India
Nesibe Feyza Dogan, Highschool student, Netherlands
Una, writer and educator
Radu Toma, Romania
Financier and CEO, USA
Yara, Lebanon
Be the first to know when a new story is told! Delivered once a month.
Comments